مقالات


الأحد - 29 مايو 2022 - الساعة 01:40 ص

الكاتب: محمد العلائي - ارشيف الكاتب



يوفِّر لنا التاريخ أمثلة قليلة عن إمكانية نشوء دولة كبيرة من خلال إقامة اتحاد سياسي طوعي بين أُمراء وزعماء محلّيين يمثلون كيانات مختلفة يحتل كل واحد منها رقعة جغرافية صغيرة محددة، لها مركز واحد، ولها قيادة واحدة تتمتع بأي شكل من أشكال الشرعية.
يتكوَّن من تجميع هذه الوحدات بناء فيدرالي تعاقدي دستوري بين فرديات مستقلة، سواء كان اتحاداً بين أنداد، أو اتحاد تراتبي قائم على هيمنة طرف على البقية، كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة التي كان لـ النفط والثروة الطبيعية، إلى جانب عوامل أخرى، دوراً حاسماً في تثبيت تجربتها.
والسؤال هو:
هل يمكن الاستفادة من هذا المثال في اليمن؟
سنردّ على هذا السؤال بسؤال أكبر:
أين هي الكيانات والأنساق الاجتماعية الصغيرة المستقلة المحددة جغرافياً والواقعة سياسياً تحت قيادة حائزة على درجة كافية من الشرعية والقدرة على تمثيل الكيان بجميع أفراده للدخول في معاهدات اتحادية مع كيان آخر أو مع أكثر من كيان محلي مماثل؟
إذا افترضنا أن اليمن، بوصفه إقليماً جغرافياً معلوماً، قد فقد اليوم وحدته السياسية كدولة ذات سيادة فعلية ممتدة على كامل أراضي الإقليم، وإذا افترضنا أنّ الهوية الوطنية الواحدة للشعب اليمني، قد أصبحت هي الأخرى مجرد ادعاء عاطفي يَخسَر الكثير من قدرته على الاقناع كلما اقتربنا أكثر من الواقع الداخلي المفعم بالتمزق العنيف، فإن النزعات الإقليمية/ المناطقية الجزئية، الانقسامية، ليست في الواقع العيني سوى نماذج مصغرة لحالة اليمن الكبير:
فهي موجودة كدعاوى ضخمة وصاخبة على مستوى الخطاب، لكنها عاجزة بعمق عن امتلاك شروط التحقُّق الذاتي كوحدات سياسية منظمة على أقاليمها الافتراضية.
حتى الآن، ليس لهذه النزعات الإقليمية المحلية أي وجود سياسي مستقل ومجسَّد، لا كجمهوريات مصغرة، أو شبه جمهوريات، مثلما هو حال الولايات الفيدرالية التي شكَّلتْ الاتحاد الجمهوري الأمريكي، ولا كسلطنات ومشيخات وإمارات مثلما هو حال إمارات الخليج التي اتحدت وشكلت دولة الإمارات العربية المتحدة.
بعبارة أخرى: ليس هناك حتى الآن منطقة يمنية مكتملة التكوين والتنظيم والتشكُّل الداخلي كوحدة سياسية جزئية قادرة على التصرف في مصيرها الخاص في مقابل وحدة سياسية جزئية مشابهة.
الوحدات الإدارية المحلية فقط هي القائمة بثبات حتى الآن، نقصد المحافظات بحدودها المعروفة.
اسطورة الأقاليم الستة التي تم اقتراحها في مؤتمر الحوار الوطني، عام 2013، محددة فقط على الورق.
لكن حتى النزعات والحساسيات الإقليمية/ المناطقية النشطة تلقائياً والتي خضعتْ للتسييس الصريح والمنظّم بالاستناد إلى وعي تاريخي وثقافي نخبوي يؤكد على الخصوصية والفرادة وأحياناً المظلومية في مواجهة المركز السابق للدولة اليمنية، حتى هذه النزعات تعاني إمّا من فشل سياسي داخلي مستعصٍ، لأسباب ذاتية أو موضوعية، أو تعاني من عزوف بالمُطلق عن التحقُّق السياسي.
باختصار: تعاني من عوامل الانقسام والفشل نفسها تقريباً التي يعاني منها اليمن ككُل.
لنأخذ على سبيل المثال:
1) النزعة الإقليمية/ المناطقية الحضرمية. إنها في الواقع لا تقلّ فشلاً، كوحدة سياسية، عن وحدة اليمن الكبير. حضرموت موحّدة إدارياً فقط كمحافظة تابعة للجمهورية اليمنية. تظهر الانقسامات الحضرمية عندما يتعلق الأمر بإقامة وحدة سياسية حضرمية مستقلة. (في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، كان هناك مساعٍ لتوحيد "حضرموت الكبرى" التي كانت منقسمة إلى وحدتين سياسيتين ناجزتين: سلطنة القعيطي في المكلا وسلطنة الكثيري في سيئون. حتى في ذلك الوقت، بدا الحديث عن وحدة حضرموت حديثاً حالماً وطائشاً ولا يمتلك مقومات النجاح. مع أن إقامة وحدة سياسية بين أميرين يمثل كل واحد منهما إمارته، هي أسهل بكثير من وحدة سياسية يقوم فيها أمير واحد بإخضاع ملايين أو مئات الآلاف من الناس).
2) النزعة الجهوية الجنوبية الشطرية، على حدود ما قبل 1990. هذه النزعة لا تمتلك في الواقع تنظيم سياسي موحد يمارس سلطته بكفاءة على كافة أراضي الجنوب. المجلس الانتقالي الجنوبي هو أقوى محاولة في هذا الصدد، لكن نفوذه لا يغطي كل المحافظات الجنوبية، ولا يبدو أنه سيكون قادراً على ذلك دون أن يستعين بالوسائل ذاتها التي يرفض المجلس الاقرار بشرعية نتائجها عندما جرى استخدامها قانونياً لمنع الانفصال عام 1994.
3) النزعة الإقليمية التعزّية، بدويّها الاعلامي المشهود، لا تعكس أيضاً على الواقع أي وحدة سياسة لكيان متبلور ومنظم وواضح المعالم داخل إطار جغرافي محسوم له بداية ونهاية.
4) النزعة الإقليمية المأربية هي الأخرى لم تتحول إلى وحدة سياسية قائمة بذاتها، بل إنها توارت كخطاب وكواقع إلى حد كبير لصالح الاتجاه التوحيدي الوطني.
هذا يعني أن الفشل السياسي الراهن في اليمن شامل وفظيع:
هناك فشل سياسي كُلّي لليمن كدولة مركزية موحدة، وهناك في المقابل فشل سياسي منتشر على مستوى الأقسام والأجزاء الإقليمية النشطة ضد المركز.
بعبارة أخرى: يقف اليمن بين وحدة وطنية فاشلة في استعادة وضعها السياسي كدولة، سواءً مركزية أو اتحادية، وتفكك فاشل وعاجز سياسياً هو الآخر.
مع الاعتراف بأن الفارق القانوني والأخلاقي لا يزال امتياز خاص تتمتع به وحدة اليمن الكبير: الجمهورية اليمنية، الكيان الشرعي المعترف به من جميع الدول في العالم.
قبل سنوات الانهيار والحرب، كانت اليمن قد أصبحت كعكة، قطعة ذهبية مثلَّثة تتألَّق في الركن الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، أما اليوم فهي تعود مرة أخرى إلى وضع تاريخي داخلي شبيه بالعجينة، إذا جاز لنا استعارة ما كتبه الروائي البولندي غومبروفيتش في يوميّاته عن الأرجنتين في منتصف القرن الماضي: "ما هي الأرجنتين؟ عجينة لم تصبح كعكة بعد، مجرَّد شيء لم يتشكَّل أو احتجاج ضد مكننة الروح..."!

* المقال نُشر في موقع "المصدرأونلاين"، اليوم السبت، 28 مايو 2022