مقالات


السبت - 22 فبراير 2020 - الساعة 12:53 ص

الكاتب: إبراهيم نوار - ارشيف الكاتب



قلنا إن مكانة مصر في العالم من حيث عدد سكانها تزيد عن نحو 6 أمثال مكانتها من حيث حجمها الإنتاجي؛ فعدد سكان مصر يعادل ما يقرب من 1.2% من سكان العالم، في حين أن حجمها الاقتصادي الكلى، بما فيه نصيب الشركاء الأجانب في قطاعات مثل النفط والغاز والإسكان والتجارة الداخلية وخدمات الصحة وغيرها، يعادل حوالي 0.2% تقريبا من حجم الاقتصاد العالمي. هذا يعني ببساطة أننا لا ننتج بما يتلاءم مع حجمنا السكاني.

بعض الناس سيقفز فورا ليعزو سبب ذلك إلى أن المصريين كسالى، ولا يميلون للعمل. لكن الإحصاءات الحكومية التي تقدر نسبة البطالة بحوالي 8% من قوة العمل تكذب هذا التفسير. الأمر بالنسبة للاقتصاديين لا يتعلق باتهام الأفراد بالكسل وعدم الرغبة في العمل، لأن إنتاجية الفرد من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية هي مفعول أو ناتج لعدد من العوامل أهمها التعليم، ومستوى الصحة، ومهارات العمل المكتسبة من خلال التدريب، ومستويات الراحة في السكن والتنقل والاتصال، إلى جانب التجديد التكنولوجي، والتوسع في الاستثمار الرأسمالي، وحسن الإدارة والتنظيم، وغير ذلك من العوامل التي تسهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في رفع إنتاجية العمل أو في إحباطها واجهاضها.

ويمكننا أن نشير مباشرة إلى نماذج لصناعات أو منشآت تدهورت فيها الإنتاجية وانهارت او هي على وشك الانهيار، مثل المصرية للحديد والصلب، ومصر المحلة للغزل والنسيج، وقبلهما النصر للسيارات وغيرها. في هذه المصانع ارتبط انهيار الإنتاجية بتوقف الصيانة والتدريب والتخلف التكنولوجي ونقص الاستثمار وفساد الإدارة. ومن الصعب اتهام المصريين بالكسل، في حين أن الإحصاءات الحكومية تبشرنا بأن معدل البطالة ينخفض شهرا بعد شهر، وأن نسبة التوظف في مصر افضل منها في بعض البلدان الأوروبية، لكن انخفاض إنتاجية العمل يعود إلى عوامل تكوين كفاءة ومهارات قوة العمل، وهذه تعود بالأساس إلى دور الدولة والمجتمع قبل دور الفرد.

ونظرا لأننا جميعا، على تنوع أحلامنا وطموحاتنا، نتفق على الرغبة في أن نرى مكانة بلدنا تسمو وترتفع، فإن البعض منا يبحث عن تحقيق حلمه وطموحه، حتى وإن تعلق بالوهم. وقد نغفر للساذج او للجاهل إذا تعلق بالوهم، اعتقادا منه أنه الطريق إلى تحقيق الحلم، ولكننا لا نستطيع أن نغفر لمن يروجون الوهم، سواء كان ذلك عن سذاجة وجهل، أو كان عن عمد. نحن لا نستطيع أن نغفر لهؤلاء، خصوصا إذا كان البعض منهم يتربح ويرتزق من تجارة الوهم.

الخطورة في التعلق بالوهم لتحقيق الحلم هي أنه يبرر الأخطاء، ويضيع الوقت، ويهدر الفرص المتاحة لإحداث تحولات حقيقية تساعد على تحقيق الحلم، الذي نسعي جميعا إلى تحقيقه.

في هذا السياق تتردد حملة تبشرنا بأن مصر خلال السنوات العشر المقبلة ستقفز إلى المركز السادس بين أهم اقتصادات العالم، وذلك استنادا إلى دراسة قال بعضهم انها دراسة عالمية، وقال آخرون إنها دراسة أمريكية. الغرض من هذه الحملة هو خلق وهم يصرفنا عما نحن فيه، ويطمئن الناس بأن صانع السياسة الاقتصادية يسير على الطريق السليم، وأننا نتقدم (بس احنا اللي موش واخدين بالنا، لكن الدنيا كلها شايفة وبتشهد)، وأن الاقتصاد المصري سيقفز في عام 2030 ليصبح سادس أكبر اقتصاد في العالم. الحقيقة انني اتمنى ان يحدث ذلك حتى لو كان أكبر من حلمي، فليس هناك ما يمنع أن نقبل بخير أكبر مما نتوقع ومما نحلم.

ونظراً لأنني لا أستطيع الإحاطة بكل ما كتب ويكتب عن موضوع قفزة مصر إلى المركز السادس، فإنني لم أتمكن من التقاط عنوان الدراسة المشار إليها، حتى أكون على علم بأصل الحكاية. لكنني تذكرت أن أحد البنوك العالمية أصدر في العام الماضي دراسة بشر فيها بأن الولايات المتحدة ستتراجع إلى المركز الثالث من حيث وزنها في الاقتصاد العالمي، وراء كل من الصين والهند، وأن أكبر 5 اقتصادات في العالم عام 2030 ستكون على الترتيب هي الصين والهند والولايات المتحدة وإندونيسيا وتركيا، تتلوها دول خمس أخرى، هي على الترتيب البرازيل في المركز السادس، ثم مصر في المركز السابع، وبعدها تأتي روسيا واليابان وألمانيا، التي ستحتل المركز العاشر.

البنك الذي نشر هذه الدراسة، وذكر فيها أن مصر ستحتل المركز السابع في جدول الحجم الاقتصادي العالمي، وليس المركز السادس، في عام 2030 هو بنك ستاندارد تشارترد، وهو بنك استثمار وتمويل بريطاني، تسيطر على أنشطته الخدمات المالية للشركات والرجال الأعمال الأفراد، خصوصا في مجالات الإقراض والتأمين والاستثمار. ويحتل البنك المركز ال 44 بين بنوك العالم من حيث قيمة أصوله المالية، أي أنه ليس ضمن العشرة بنوك الكبرى ولا العشرين ولا الثلاثين ولا الأربعين على مستوى العالم. وفي اعتقادي أن قسم الأبحاث في البنك الذي أصدر الدراسة لا يتمتع بمصداقية تكفي للأخذ بالنتائج التي توصل إليها بدون تدقيق. في هذه الحالة يكون التدقيق مطلوبا من أجل أن يطمئن العقل إلى الاستنتاجات، حتى يقبلها وتستقر في اليقين.

وقد نظرت فيما كتبت من ملاحظات، في حينه، عن الدراسة فوجدت أنها تقوم على الفروض التالية:

أولاً: الاعتماد على معادل القوة الشرائية للعملة، وليس على أساس أسعار الصرف الرسمية. وعلى هذا الأساس فقد افترض واضعوا الدراسة أن مصر تحتل المركز رقم 21 من حيث الحجم في الاقتصاد العالمي، في حين أن تقديرات البنك الدولي للعام نفسه الذي بنيت على أساسه التقديرات (2017) تضع مصر في المركز 45 عالميا من حيث حجم الإنتاج المحلي الإجمالي، وفي المركز 137 من حيث الناتج المحلي للفرد، من بين 196 دولة.

ثانياً: تفترض الدراسة أن عدد سكان مصر سيزيد بنسبة 30% خلال الفترة من عام 2017 وحتى عام 2030، ليصل في نهاية الفترة إلى 128 مليون شخص، أي بمعدل زيادة يبلغ 2.3% في المتوسط سنويا. بينما تلاحظ تقارير الأمم المتحدة أن معدل النمو السنوي لنمو السكان في مصر ينخفض تدريجيا من 2.5% إلى أقل من 2%، كما أن السياسة الرسمية للحكومة تتجه إلى فرض عوامل وقائية ضد زيادة السكان بمعدل مرتفع، منها تخفيض الدعم وإلغائه تماما بعد الطفل الثاني للأسرة.

ثالثاً: تفترض الدراسة أن قيمة الإنتاج المحلي الإجمالي في العام 2017 قد بلغت 1.2 تريليون دولار، بينما كانت قيمة إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية للدولار في العام نفسه 235.4 مليار دولار تقريبا. أي أن تقدير البنك يعادل أكثر من 5 أمثال القيمة السوقية بالأسعار الجارية للدولار. ومع التسليم بأن طريقة حساب قيمة الناتج بمعادل القوة الشرائية تختلف عن القيمة بالأسعار الفعلية للصرف، فإننا في مجال مقارنة المكانة على سلم الاقتصاد العالمي لا نستطيع الاعتماد على معادل القوة الشرائية، لأن المقاصة الرسمية في حسابات التجارة السلعية والخدمية، تتم باستخدام أسعار الصرف الرسمية، وليس بمعادل القوة الشرائية.

رابعاً: توقعت الدراسة بعد كل ذلك أن تزيد قيمة الإنتاج المحلي الإجمالي في مصر في عام 2030 إلى 8.2 تريليون دولار، من 1.2 تريليون في العام 2017. هذا يعني عمليا، على أساس هذا الافتراض، أن حجم الاقتصاد المصري سيزيد بمقدار 538 مليار دولار سنويا، ليتمكن من الوصول إلى 8.2 تريليون دولار بعد 13 عاما. وإذا حولنا هذه الزيادة إلى نسبة مئوية، فإن الاقتصاد المصري، طبقا للدراسة، سينمو بمعدل 44.8% سنويا، أو بمعدل 583.3% على امتداد الفترة من 2017 وحتى 2030.

ومن المفيد أن نذكر هنا أن متوسط معدل النمو الحقيقي الصافي في مصر خلال السنوات العشرين الأخيرة من القرن الماضي كان في حدود 2% وأن هذا المعدل لم يتغير تقريبا حتى الآن. وبافتراض ان إعادة تقييم الأصول والتلاعب في سعر العملة، وزيادة تحويلات المصريين العاملين في الخارج ستساعد على رفع متوسط معدل النمو السنوي الحقيقي الصافي (بعد استبعاد آثار التضخم وزيادة السكان وإعادة تقييم الأصول) إلى ما يتراوح بين 3 إلى 4% سنويا، فإن هذا يعني أن المعدل الكلى للنمو الحقيقي الصافي (أو صافي النمو) سيصل في نهاية عام 2030 إلى 52% على أحسن تقدير وليس 583%!

لكننا أيضا من المفيد أن نأخذ في اعتبارنا، نظرا لنمط النمو الراهن، أن حجم الاقتصاد المصري يمكن أن يتأثر سلبا بتقلبات الأسواق العالمية، مثل سوق النفط والغاز، وسوق تجارة النقل الدولية، والسياحة وغيرها، وذلك لأن الاقتصاد المصري يتأثر إلى درجة كبيرة بالتطورات في هذه الأسواق إيجابية كانت أم سلبية. على سبيل المثال فإن انتعاش الاقتصاد الدولي وزيادة حركة التجارة ينعكس ايجابا على دخل قناة السويس، وعلى تحويلات العاملين في الخارج، وايضا على السياحة، والعكس صحيح. ومن الملاحظ ان جدول مؤشرات النمو الاقتصادي في مصر يعكس بوضوح هذه التقلبات في الأسواق من عام إلى آخر.

وعلى ضوء الفرضيات التي قامت علي أساسها الدراسة، من الصعب القبول بنتائجها، إلا إذا كان الباحثون قد افترضوا ان قنبلة ستعصف بالعالم، فتدمره، لكنها ستنفخ مصر وستدفعها بأقصى طاقة لتحقيق معدلات نمو تقترب من 50% سنويا. ولا اعرف ما اذا كانت هناك سوابق في التاريخ الاقتصادي تؤيد ذلك.

وإذا كان لي أن أشير إلى دراسة مستقبلية تقوم على أسس مقبولة وافتراضات اقتصادية سليمة، بشأن تقدير المكانة الاقتصادية لدول العالم الرئيسية من الان وحتى العام 2030، فإنني ارشح الدراسة التي أعدها الاتحاد الأوروبي بشأن توقعات النمو في العالم خلال الفترة من الآن وحتى نهاية العشرية الثالثة من القرن الحالي. وتبدأ هذه الدراسة من عام 2016. وطبقا للتقديرات الاحصائية الواردة في الدراسة على موقع ec. europa. eu فإن مصر لا تظهر في ترتيب الدول العشرين الأولى من حيث الحجم على مستوى العالم. الدراسة قررت أن الصين ستحتل المركز الأول، تليها الولايات المتحدة، ثم الهند التي ستسبق اليابان وألمانيا وبريطانيا، وفي المركز السابع ستأتي كوريا، تليها البرازيل وفرنسا ثم كندا في المركز العاشر. ومن الطريف في نتائج دراسة الاتحاد الأوروبي ان هولندا ستحتل المركز العشرين في الترتيب، تسبقها الفلبين في المركز التاسع عشر.


هذا لا يعني اننا لا نستطيع تحقيق معجزة، بل اننا نستطيع أن نحصد بقدر ما نعمل، لكننا لن نحصد من حقول الوهم غير الخواء وخيبة الأمل. نستطيع أن نعلو وأن نسمو اذا استقامت الإدارة بالشفافية وحسن التدبير وسيادة القانون وحكم المؤسسات، وزيادة الادخار والاستثمار، والاهتمام بجودة التعليم والصحة والرعاية الإجتماعية والقضاء على الفقر، وإعلاء قيم الإبتكار والإختراع والتجديد التكنولوجي. نستطيع بالعمل واحترام قيمة الإنسان أن نتقدم كما تتقدم فيتنام وتايلاند والفلبين وغيرها، فلسنا أقل، لا من حيث الموارد والثروات، ولا من حيث قدرات البشر، ولا من حيث تاريخنا ودورنا الحضاري في العالم.

نحن نستطيع، إذا أخذنا بالأسباب، وليس إذا تعلقنا بالوهم.
#Ibrahim_Nawar

*من صفحة الكاتب على الفيس بوك