مقالات


السبت - 07 مارس 2020 - الساعة 09:17 م

الكاتب: إبراهيم نوار - ارشيف الكاتب



في العام 2018 احتفلت الحكومة بتحقيق معدل نمو اقتصادي وصل إلى 5.3%، لكن هذا الاحتفال كان يخفى حقيقة مؤلمة تحاول الحكومة أن تتجاهلها أو تؤخر إعلانها، ألا وهي حقيقة ارتفاع معدل الفقر في البلد الذي حقق في ذلك العام أعلى معدلات نموه منذ العام 2010. فماذا يعني هذا التناقض في اجتماع زيادة معدل النمو، مع زيادة معدل الفقر؟

إما ان أرقام الحكومة تكذب فيما يتعلق بالنمو، وإما ان ثمار النمو سقطت على المحظوظين دون غيرهم، وتم حرمان غير المحظوظين. الأرجح في نظري هو خليط من الخطيئتين، أرقام الحكومة تكذب، وثمار النمو تسقط في سلة المحظوظين دون غيرهم.

في هذا المقال أحاول تطوير مفهوم لإعادة تعريف الفقر، مع الإشارة إلى دراسات وتقارير البنك الدولي في هذا الخصوص، ثم كيفية حساب خط الفقر القومي، وضرورة أن يستقيم ذلك مع تعريف الفقر.

إن إعادة تعريف الفقر، ثم تصحيح طريقة قياسه على أساس التعريف الجديد هو الخطوة الأولى على طريق تناول الأسس الموضوعية المقارنة لقياس انتشار الفقر في مصر، الذي أشرنا في المقال السابق إلى انه تضاعفت منذ بداية القرن الحالي حتى الآن.

> حدود متغيرة للفقر

ينقسم الناس من حيث مستوى المعيشة بين ميسوري الحال، بعيدين عن الفقر والفاقة في الوسط، فوقهم الأثرياء، وتحتهم الفقراء. ويجوز تقسيم كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إلى فئات داخلية. الفقير هو الفرد الذي لا يحصل على ما يكفيه لإعادة إنتاج قوة عمله، وتحقيق نفسه اجتماعيا. ولكي يعيد الفرد إنتاج قوة عمله وتحقيق نفسه اجتماعيا، فهو يحتاج إلى كمية كافية من نوعيات معينة من الغذاء والشراب تحتوي على المقدار الكافي من المياه والبروتين والنشويات والفيتامينات والاملاح المعدنية والأحماض الأمينية التي توجد كلها في اللحوم والدواجن والاسماك والالبان ومنتجاتها والخضروات والفواكه والدهون والسكريات وغيرها. كذلك يحتاج الفرد للنوم والراحة وهو ما يعني ضرورة الحصول على مسكن مؤثث. ثم هو يحتاج أيضا للرعاية الصحية الملائمة للمحافظة على بدنه سليما ووقايته من الأمراض وعلاجه منها. كما يحتاج للأمان الضروري في سكنه وعمله وتنقلاته، لأن الإنسان الفرد غير الآمن يجد صعوبة في إعادة إنتاج قوة عمله تحت التهديد او مع الشعور بعدم الأمان. هذه هي الشروط الطبيعية الضرورة لإعادة إنتاج قوة العمل عند الحد الأدنى جدا، الا وهو قوة العمل العضلي.

لكن الإنسان الفرد يعيد إنتاج قوة عمله في بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسة معينة، ويجب أن يكون عمله ملائما ومطلوبا. ولذلك فإنه يحتاج إلى التعليم والتدريب الكافي لتوفير المعرفة ببيئة العمل، ولاكتساب مهارات نافعة وتطوير هذه المهارات. ونظرا لأن الإنسان الفرد لا يعيش وحده، وإنما في مجتمع مع آخرين، ثم إن هذا المجتمع نفسه لا يعيش وحده، وإنما بين مجتمعات أخرى تتنافس على الرفاهية وامتلاك القوة لزيادتها؛ فإن الاحتياجات اللازمة لإعادة إنتاج قوة العمل من سلع وخدمات، تنقسم إلى سلع وخدمات اجتماعية عامة، وسلع وخدمات خاصة. في حالة السلع والخدمات الخاصة، يتعين على الفرد ان يشتريها بنفسه لنفسه أو لأسرته. أما العامة، فإنه قد يحصل عليها مجانا أو برسوم أقل من تكلفتها الاقتصادية، ويشترك مع آخرين في استخدامها مثل وسائل النقل العام أو المستشفيات العامة أو المدارس والجامعات التابعة للدولة. كما أنه في حاجة إلى بيئة نقية خالية من التلوث بالقدر الذي يحميه من الموت ومن الأمراض.

ويؤدي الفقر في وفرة السلع والخدمات الاجتماعية إلى حرمان ذوي الدخل المنخفض من الحصول عليها. فالفرد لا يستطيع أن يشتري هواءً نظيفا في بيئة ملوثة، ولكنه يستطيع عندما يمتلك الدخل الكافي او المكانة الاجتماعية المؤهلة، أن ينتقل من المدن القديمة المتهالكة، أو من الأحياء العشوائية إلى المنتجعات النظيفة الخضراء، تماما كما أن الشخص الذي لا يجد خدمة صحية عامة ملائمة يشعر بالفقر عندما يواجه المرض، بينما آخرون يستطيعون شراء الخدمة الصحية الكافية للعلاج في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الخاصة. الفرد لا يستطيع أن ينشئ نظاما فرديا للصرف الصحي، أو للعلاج او للبيئة النظيفة، لكن بعض الأفراد يستطيعون شراء مثل هذه الاحتياجات حيثما تكون متاحة.

كذلك فإن الإنسان الفرد يعيش في مجتمع يسعى لزيادة رفاهيته، يتعين عليه أن يبذل جهدا لزيادة القدرة التنافسية لمجتمعه بين المجتمعات الاخرى، أو لامتلاك القوة والقدرة على توسيع نطاق الرفاهية. وفي هذا السياق فإن النظام الاجتماعي، والعلاقة بين المجتمع والدولة، وتوفير البيئة الصحية لزيادة القدرة على المنافسة تمثل شروطا إضافية، خارج قدرة الإنسان الفرد، تسهم في تحديد مكانته بين الافراد في العالم. ويؤدي الافتقار إلى هذه الشروط او ضعفها إلى زيادة حدة ظاهرة الفقر، التي تكتسب يوما بعد يوم بعدا عولميا، مع تشكل طبقة وسطى عالمية تتميز بنمط متناسق على مستوى العالم من حيث مستويات الدخل والإنفاق والميول والأذواق، مع انتشار ظاهرة العولمة وسقوط الحدود التجارية بين الدول من خلال التجارة الإليكترونية.

هذه الشروط الثلاثة تمثل المعايير الموضوعية لتعريف الفقر في العصر الذي نعيشه حاليا: 1) شرط كفاية الإحتياجات الطبيعية والبيئية، و 2) شرط كفاية الاحتياجات الاجتماعية، ثم 3) شرط كفاية الاحتياجات التنافسية التي من شأنها ان تحمي الإنسان الفرد من السقوط إلى الفقر المدقع او الى الفقر بمعناه الطبيعي فقط، كما تحميه من التدني الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي مقارنة بغيره من الأفراد على مستوى العالم.

> دواعي تحريك خط الفقر

تعريف الفقر طبقا لما ذكرنا ينطبق على ما دون حد الكفاف الطبيعي والاجتماعي والتنافسي، اللازم لإعادة إنتاج قوة العمل. ويحتاج قياس الفقر، وفقا لذلك، إلى قياس الدخل النقدي، والتحويلات غير النقدية، ومقدار الخدمات العامة الضرورية غير المقومة في الدخل الفردي، مثل مدى توفر خدمات التعليم والرعاية الصحية والكهرباء ومياه الشرب النقية والصرف الصحي والبيئة النظيفة والطرق الآمنة والأمن الجنائي. هذا يعني أن حد الكفاف الطبيعي والاجتماعي والتنافسي يشمل جانبا نقديا يقاس بالدخل، كما يشمل جوانب غير نقدية تقاس بوفرة وملاءمة الخدمات الاجتماعية والتنافسية الضرورية. ما زاد عن ذاك يدخل الفرد في عداد الميسورين، وما قل عن تغطية حد الكفاف الشامل بجانبيه النقدي وغير النقدي يضع الفرد بين الفقراء، وما دونه هو الفقر المدقع.

وبناء على ما سبق يمكننا القول إنه في تحديد خط الفقر الذي يفصل بين الميسورين ومن هم دونهم، يتعين تحريك خط الفقر طبقا لتغير مكونات تكاليف الحصول على حد الكفاف الطبيعي والاجتماعي والتنافسية للفرد؛ فالفقر ليس ظاهرة مستقلة مطلقة، ولكنه ظاهرة نسبية ترتبط بالعلاقة بين متغيرات الدخل، وتكاليف السلع والخدمات، ومدى وفرة الخدمات العامة الضرورية لتغطية حد الكفاف التي لا يستطيع فرد واحد أن يحصل عليها بمفرده. الأثرياء فقط أو أصحاب المكانة الرفيعة يستطيعون شراء خدمات خاصة تغطي العجز في عرض الخدمات الاجتماعية والتنافسية العامة، مثل شراء الحراسة الأمنية الخاصة لتغطية العجز في الأمن الجنائي، أو شراء خدمات العلاج الخاصة لتعويض انهيار الخدمات الصحية العامة. ونظرا للحراك الاجتماعي من ناحية، وارتفاع مستوى المعيشة من ناحية ثانية، وتغير مستويات التنافسية على المستوى العالمي من ناحية ثالثة؛ فإنه من الضروري تحريك خط الفقر كل فترة زمنية، عشر سنوات مثلا، لقياس العلاقة بين التغيرات في الدخل والتغيرات في تكاليف المعيشة واحتياجات تغطية حد الكفاف الشامل. ومن الملاحظ كذلك أن خط الفقر القومي، يختلف طبقا لدرجة تقدم المجتمع ورفاهيته اقتصاديا وثقافيا.

هذا التعريف للفقر الذي عرضناه ما يزال صعب القياس حتى الآن. وعلى الرغم من أن التقارير الإنمائية للأمم المتحدة، وتقارير البنك الدولي، وتقارير التنافسية الدولية تتضمن الآن مؤشرات لقياس مدى وفرة السلع الاجتماعية وكفايتها وملاءمتها، وقياس مؤشرات التنافسية والاستثمار في الثروة البشرية، إلا أن هذه التقارير لم تتمكن حتى الآن من وضع نموذج رياضي متكامل ومقبول لقياس ظاهرة الفقر بمكوناتها الشاملة. وما يزال القياس يعتمد على الدخل النقدي مقوما بمعادل القوة الشرائية للعملات المحلية مقابل الدولار، وهو معادل يفتقد إلى المصداقية والموضوعية، ولا يتسق مع نهج صندوق النقد الدولي الذي يسعى لتعميم "الأسعار العالمية" في كل مكان، خصوصا على المكونات الرئيسية في سلة السلع الطبيعية والاجتماعية اللازمة لتغطية حد الكفاف، من أسعار الطاقة إلى أسعار خدمات الرعاية الصحية.

وقد طور الباحثون في البنك الدولي أخيرا خمسة معايير رئيسية، يتم على أساسها حساب معدل الفقر الحقيقي، يكون الفقر النقدي واحدا منها فقط، بعد أن ثبت أن قياس الفقر على أساس الدخل النقدي فقط لا يسمح بإجراء مقارنات سليمة بين مستويات الفقر والرفاهية في الدول المختلفة، ولا حتى داخل الدولة الواحدة عبر الزمن.

المعايير الخمسة الجديدة لقياس الفقر هي:

1- الدخل النقدي للفرد: ويقدر البنك أن حوالي 50% من سكان العالم يعيش الواحد منهم عند 5.5 دولار او اقل يوميا.

2- التعليم: ويندرج تحت خط الفقر الأفراد الذين بلغوا سن الدراسة لكنهم غير منتظمين في مدارس.

3- وفرة خدمات البنية الأساسية: ويدخل تحت خط الفقر الأفراد الذين لا تصلهم مياه الشرب النقية او خدمات الصرف الصحي او الكهرباء.

4- الخدمات الصحية: ويدخل في عداد الفقراء الأفراد الذين لا تتوفر بالقرب منهم خدمات صحية ضرورية، والأطفال الذين لا يحصلون على الامصال والتطعيمات الأساسية، وكذلك الأطفال والإناث الذين يعانون من سوء التغذية.

5- خدمات الأمن: ويندرج في عداد الفقراء الأفراد الذين يشعرون بتهديد الجريمة ومخاطر وقوع أضرار او كوارث، وكذلك عدم توفر إمكانيات التعامل مع نتائجها.

> علاقة الفقر بمستوى النمو

وقد طور خبراء البنك الدولي في العقود الأخيرة المعايير المتعلقة بقياس الفقر في العالم. كما سعي البنك لتوضيح السبل الكفيلة بالتخفيف من حدته واجتثاثه، ووضع أهدافا للتنمية حتى العام 2030 تتضمن القضاء على الفقر المدقع تماما بحلول ذلك العام. وقد اتجهت دراسات البنك منذ العام 1990 إلى تحريك خط الفقر العالمي، من دولار واحد للفرد يوميا في ذلك الوقت، إلى 1.2 دولار ثم إلى 1.9 دولار (بأسعار 2011) في العام 2015. ثم أجرى البنك تعديلا جوهريا في طريقة قياس الفقر وتحديد خط الفقر العالمي في العام 2017 بناء على توصيات قدمتها في أبريل 2016 لجنة تم تشكيلها خصيصا لدراسة ظاهرة الفقر على المستوى العالمي Commission on Global Poverty .

وبناءً على توصيات هذه اللجنة، وجد البنك الدولي أن ما يقرب من نصف سكان العالم، يعيش الواحد منهم عند دخل نقدي يبلغ 5.5 دولار او اقل يوميا، وأن تكاليف المعيشة للفرد مقومة بالقوة الشرائية للعملة مقابل الدولار تختلف من بلد إلى آخر. وبعد تقسيم الدول النامية متوسطة الدخل إلى فئات أعلى وأدنى، قدر البنك خط الفقر في الدول النامية ذات الدخل الأدنى (ومنها مصر والهند) بنحو 3.2 دولار يوميا للفرد، على أساس القيمة او القوة الشرائية للنقود في عام 2011. بينما حدد خط الفقر القومي في البلدان النامية الأعلى دخلا (ومنها جنوب إفريقيا وجامايكا والعراق) عند 5.5 دولار للفرد يوميا. في حين ان خط الفقر النقدي في الدول الغنية او ذات الدخل المرتفع (مثل أستراليا والولايات المتحدة) يبلغ 21.7 دولار يوميا للفرد. وتعتمد تقارير ودراسات البنك الدولي حاليا خطا عالميا للفقر المدقع في الدول النامية يبلغ 1.9 دولار للفرد او اقل. وأعلن البنك ضرورة القضاء على الفقر المدقع قضاءً تاما بحلول العام 2030 أو قبل ذلك.

طبقاً لما عرضناه سابقاً، فإن خط الفقر العالمي الذي تقع داخله مصر هو 3.2 دولار للفرد يوميا. وهذا يتعلق أساسا بالجزء النقدي من الدخل. ولم يطور خبراء البنك حتى الآن نموذجا رياضيا متكاملا لحساب خط الفقر العالمي الذي يأخذ في اعتباره الجوانب غير النقدية للدخل. وعلى الرغم من الاعتراف بالقصور وعدم الدقة في استخدام الدخل النقدي كمقياس لتحديد خط الفقر، فإنه لا سبيل إلى غير ذلك حتى يتم تطوير النماذج الرياضية الملائمة لقياس خط الفقر القومي بما يشمل معدلات إتاحة التعليم العام الجيد، وخدمات الرعاية الصحية، ومياه الشرب النقية والصرف الصحي والطرق ووسائل النقل المريحة ومقومات الأمان الجنائي الكافية لتحقيق طمأنينة الأفراد وهم يعملون يوما بعد يوم لإعادة إنتاج قوة عملهم عند المستوى الاجتماعي والاقتصادي والتقني الملائم. نحن نتحدث بذلك عن خط قومي للفقر في مصر عند مستوى 3.2 دولار يوميا للفرد. فماذا فعل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في هذ السياق، وكيف حدد خط الفقر القومي للمصريين؟

*كاتب مصري (من صفحته في الفيس بوك)