مقالات


الأربعاء - 28 أكتوبر 2020 - الساعة 08:28 م

الكاتب: عبدالكريم الرازحي - ارشيف الكاتب



بعد أن أدرت ظهري للولد العدني ولدراجته شعرت بضآلتي انا القروي القادم من القرية، وداهمني شعور بالخوف من المدينة، ومن ناسها الذين كانوا يمرون من جنبي مرور اللئام، فلا يتوقفون للسلام ولا للكلام.

كنت اسلم عليهم فينزعجون من سلامي، ولا يردون السلام. وحين أستوقفهم واسألهم عن فرن ابن عمي عبد الله عبده حميد لا يتوقفون، ولا يردون على اسئلتي، ولا يعيرونني اي اهتمام. وانما كانوا يهشونني كالذبابة من امامهم، ويزحموني ويبتلعوني في الزحام مثلما يبتلع احدهم حبة اسبرين.

وفي سوق الطويل الذي طال وصار أطول مما هو عليه كان شعوري بالضياع يقوى كلما تراخت قبضة الشمس ومالت الى الغروب.

بعدئذ وقد راحت الشمس تتوارى وتغطس مثل جمرة في مياه البحر شعرت كما لوان ليل المدينة بئر اغطس فيه، ولا امل لي في الخروج منه.

وعلى الرغم من سطوع شمس الكهرباء التي انارت الشارع والحوانيت ووجوه المارة الا اني لحظتها كنت ارى الشارع مظلما، والحوانيت مظلمة، ووجوه المارة والمدينة كلها مظلمة، وكان الظلام يحيط بي من جميع الجهات لا شيئ اراه واضحا سوى الضياع، ضياعي.

وفيما كنت اخبط خبط عشواء بحثاعن درب العودة تذكرت قريتي وندمت على مغادرتها، واجتاحتني رغبة عارمة في العودة اليها، ورحت وانا اواصل البحث عن الشارع الذي اضعته استحضر روح جدتي التي تخلت عني، وقذفت بي الى المدينة مثلما كانت تقذف بي وعمري خمس سنوات الى البركة لاتعلم السباحة.

كانت قدقالت لي وهي تودعني بان جدي علي اسماعيل سوف يكون في استقبالي وسوف يستقبلني اخوالي محمد وعبد الوهاب واخوتي الثلاثة سيف وعبد الحليم وعبد الحكيم وبأني لن اضيع.

لكن شعوري بالضياع تعاظم عندما تذكرتُ ان لا احد من هؤلاء استقبلني، او زارني، او سأل عني.

كنت قد اشتقت اليهم من قبل السفر وسألت عنهم ليلة وصولي سألت عن اخي الكبير سيف فقيل لي بأنه في العيدروس ولم اكن اعرف ما هو العيدروس! وهل هو اسم رجل! ام اسم فرن! ام انه اسم لشارع او منطقة!

سألت عن عبد الحليم! فأخبروني بأنه يشتغل عند النصارى في منطقة بعيدة اسمها التواهي. وحين سألت عن اخي عبد الحكيم قيل لي بانه يشتغل عند جدي في منطقة اسمها الخساف.

وكانت معلوماتي عن جدي علي اسماعيل هو انه الوحيد من قريتنا لديه بنجلة ولم اكن ادري ما هي البنجلة..

لكني بعد مرور اربع ساعات على ضياعي، ولشدة احساسي بالضياع انفجرت ابكي ورحت اسأل الناس الذين تحلقوا حولي عن بنجلة جدي علي اسماعيل وكان لدي يقين بأن شهرة جدي في عدن توازي شهرة جدتي في القرية وان الكل يعرفه ويعرف البنجلة.

لكن الناس الذين تحلقوا حولي صدموني بكلامهم.. جميعهم قالوا بأنهم لا يعرفون من هو جدي، وانهم لم يسمعوا به ولا ببنجلته.

ثم ترامى الى مسامعي صوت احدهم يقول لي:
- انا اعرف جدك علي اسماعيل تعال معي.

وعندها لشدة فرحي رحت اكفكف دموعي وامضي خلف الرجل الذي قال لي بانه يعرف جدي ويعرف البنجلة.

وفي الطريق سألني: كم معك فلوس؟
قلت له: خمسة شلن
قال: هاتها اركبك تاكسي لاعند جدك.
وكانت تلك الشلنات الخمس قد اعطتني اياها جدتي وهي تودعني ومعها اعطتني ايجار السيارة من الراهدة الى عدن.
اعطيته الخمسة الشلن ووقفت انتظره في ناصية الشارع ريثما يحضر التاكسي وكنت بيني ونفسي مغمورا بالفرح لسببين:
احدهما: ان الرجل يعرف جدي علي اسماعيل
والثاني: هو انني ساركب تكسي لاول مرة في حياتي
لكني وبعد مرور وقت من الانتظار ادركت بان الرجل نصب علي.

وحينما سالت احدهم عنه صاح فوقي وقال لي:
- ليش جبت له الخمسة الشلن!!
قلت : حق التكسي
قال: ايش من تكسي!! لو يشتي تكسي التكاسي مليان هذا نصاب شافك اهبل وزاد علوك!!

وبعد ان يئست من عودة رجل التكسي وفقدت الامل في العودة الى البيت لمحت شخصا طويلا يمر امامي في سوق الطويل وقد عرفت لحظة لمحت صورته انه من قريتنا.. وعندما لحقت به واقتربت منه عرفت انه "شُبَاطَة"
ومن شدة فرحي جريت نحوه اسلم عليه:
- السلام عليكم يا شباطة
- وعليكم السلام
وبدا شباطة مندهشا يحملق في وجهي بفضول وكأنه لم يعرفني

قلت له : مو ما عرفتناش!!
قال : منو انت؟
قلت له : انا بن ثابت حميد
قال : انت محمد!
قلت : لا، انا عبد الكريم
قال لي وقد تذكرني:
- هاااا انت عبد الكريم "المُمْخِطْ"
وشعرت لحظتها كما لو انه صفعني بجزمة.

▪من صفحة الكاتب على الفيس بوك