مقالات


الأربعاء - 11 نوفمبر 2020 - الساعة 08:59 م

الكاتب: عبدالكريم الرازحي - ارشيف الكاتب



مثلما كان البول يسيل مني لا إرادياً، كان المخاط هو الآخر يسيل من انفي لا اراديا، مع الفارق، وهو ان البول يسيل في الليل اثناء النوم، فيما المخاط يسيلُ في النهار وانا يقظ. لكنه كان يسيل بطريقةٍ مرضيةٍ، وغير طبيعية، لكأن انفي جرح ينزف.

كان أولئك الذين يعبرون من أمام بيتنا في طريقهم إلى بيوتهم، أو إلى قراهم، حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي يصرخون بي أن اتمخط:
- إتمخط ياب
ثم يسألون أترابي وهم في حالة اشمئزاز:
- ابن من هذا الولد الممخط؟
وكنت أنا أتألم وازعل واشتم كل من يقول عني ممخط وارد عليه قائلا:
- انا امخّط امك
أما أمي التي تعرف كم كنت أتألم، واتضايق من مخاطي، ومن أولئك الذين يقولون عني: ممخط
فكانت كلما ترامى إلى مسامعها تلك الكلمة التي تؤذي مشاعري تسرع نحوي وتقول وهي تمّخّطني:
- مخاط ابني عسل

كانت كلما مخّطتني ونظفت انفي وجففت سائلة الانف تمتلئ السائلة من جديد بالسائل الفيروزي وكانت تعزو ذلك الى جرح في انفي حدث اثناء سقوطي وانا في السنة الثانية من عمري بعد محاولة لي للوصول الى كاتورة الزلابيا، اما جدتي فتقول بأن عينا اصابت نخرتي التي كانت احدّ من السيف فسقطتُ عليها وتهشمت وغدت مفلطحة مثل نخر العبيد.

وقد ادركت امي فيما بعد، وادركت معها امهاتي بالرضاعة ان مخاطي نزيفٌ وليس مجرد مخاط.

وقد نصحنها بعرض حالتي على الطبيب.

ولشدة خوفها على صحتي وسمعتي عملت بنصيحتهن، وعرضتني على طبيب القريةالسيد عبد اللطيف الصوفي (والد زوجة الزعيم الاشتراكي عبد الفتاح اسماعيل) ليعالجني ويوقف النزيف.

وقد عالجني السيد عبد اللطيف بالكي ووسمني بميسم في القذال (الجهة الخلفية من الراس الممتد ما بين الاذنين) وكانت النتيجة هو اني فقدت حاسة الشم التي لا تقل اهمية عن حاسة البصر.

لا اذكر متى وكم كان عمري عندما اجرى لي السيد عبد اللطيف عملية الانف واطاح بواحدة من اهم حواسي الخمس!! لكني فيما بعد حين ذهبت الى اطباء اخصائيين بامراض الانف واكدوا لي العلاقة بين الميسم وبين اختفاء حاسة الشم تالمتُ ومازلتُ اتالم لليوم من فقداني هذه الحاسة التي بسبب حرماني منها حُرمت من شم رائحة المراة (رائحة الحياة).

وكم كنت اود هنا ان احكي لكم عن الاضرار التي لحقت بي من جراء افتقادي لحاسة الشم وعن المخاطر التي كادت تودي بي الى الهلاك وكذا عن الاحراجات التي تعرضت لها خلال مسيرة حياتي بسبب هذه العاهة لكني خفت تحتجوا وتقولوا:
- انت يا رازحي تتوّهنا، وتنحرف بنا عن مسار القصة، ومسار السرد، وتنقلنا من المدينة الى القرية، ومن السينما الى البول، ومن البول الى المخاط، ومن المخاط الى الضُّراط، وتخرجنا من موضوع الى موضوع.

ومع اعترافي بأنكم على حق لكن اسمحوا لي اوضح لكم طريقتي في السرد حتى تفهموني وتعذروني والحقيقة هي أني متأثر بطريقة الجدة فازعة في الحكي احكي على منوالها وكانت فازعة وهي تحكي لنساء القرية تتوّههن، وتدوخ بهن، وتنقلهن من موضوع الى موضوع، ومن حكاية الى اخرى، ومن عالم الى آخر.

وبعد ان تحكي لهن حكايات من عالم الانس تقذف بهن فجأة الى عالم الجن والعضاريط، والى ما وراء عالم الجن والعضاريط. وكانت تدخل في حكاية جديدة قبل ان تنتهي من الحكاية الاولى، واحيانا كانت تنسى الحكاية الاصل وتنسى طريق العودة اليها إن لم يذكّرنها. وفي سنواتها الاخيرة كانت تحكي حكايات غامضة ومخيفة عن عالم ما قبل الذاكرة وما بعدها وكن حين يذكرنها لا تذكر وتقول عن ذاكرتها بانها اضحت خالية من الحكايات خلو فمها من الاسنان. اما عن نفسي فلم اصل بعد الى حالتها، وما زلت اذكر ما قاله شُباطة لي، واذكر باني من فرحتي بالعثور على رجل من قريتي تجاوزت وتصرفت كما لو اني لم اسمعه.

ليلتها لم اقل له باني ضعت ولم اسأله عن العنوان وانما قلت أسأله عن السينما وكان لدي يقين بانه يعرف كل شيء في المدينة وانه الوحيد الذي يستطيع ان يقودني اليها ويعرّفني عليها.

سألني: ايحين اجت من القرية؟
قلت: قبل ثلاث ايام.

وحينها تشجعت وسالته:
-اين هي السينما؟
التفت الي التفاتة غاضبة وقال لي بنبرة حادة:
- موتشتي بالسينما!
قلت - وقد افزعتني التفاتته -: ولا حاجة
قال بنبرة تهديد: هيا اوبه تروح السينما. السينما ما يدخلوها الا المخانيث.. لورحت السينما اكلم اخوك سيف.

وكان وقع كلماته على نفسي مثل وقع المطرقة على الراس حتى لقد شعرتُ لحظتها من ردة فعله بان السينما مكان تُمارسُ فيه الفاحشة.

وحتى يخفف عليّ من ردة فعله الغاضبه قال لي:
-تعال اعزمك على عشا قل لي ما هو اللي في نفسك!
قلت له: سكريم
وشعرت بأن كلمة آيسكريم لم تعجبه وقال وهو يمسك بيدي ليعيدني الى صوابي:
- انت ابن قرية خليك رجال السيكريم هذا حق الصعاليك والمايعين على شان مشافرهم تحمر وتتلون بالوان السيكريم مثل مشافر البنات ويكون لها طعم حالي وقت البوس.

عندئذ -وانا اسمع كلامه- داخلني شعور بالاشمئزاز من الآيسكريم ووعدته باني لن اقربه.

وفيما رحنا نمشي في سوق الطويل باتجاه الميدان توقف جنب مقهى كبير وقال لي محذرا:

-هذي المقهاية اوبه تدخلها لو دخلت شخنثوك ذانا احذرك
مش بعدا شتقول ما حد قال لي.

ومن بعد كنت كلما مررت من جنب مقهاية زكُّو امر مسرعا ولا التفت لا يمين ولا شمال، وكنت وانا امر جنبها تعتريني قشعريرة شبيهة بتلك القشعريرة التي كانت تعتريني في القرية عند مروري قريبا من "الضّياح " ومن تلك الاماكن المريعة والمشهورة بانها مسكونة بالجن وبالعفاريت.


▪من صفحة الكاتب على الفيس بوك