مدى الثقافي/ د. يوسف زيداد *:
ابتدأت المعتزلة حسبما أجمعت المصادر، فى مجلس الإمام "الحسن البصرى" أحد أئمة السلف الكبار، حيث وقعت القصة المشهورة الخاصة بتأسيس مذهب المعتزلة، وسبب تسميتهم بهذا الاسم.
وملخص القصة أنه:
دخل على الحسن البصرى في مجلسه العلمى الحافل، بمسجد البصرة رجل يستفتيه الرأى فى جماعة (الخوارج) قائلاً ما معناه: يا إمام الزمان، ظهر في زماننا جماعة يكفرون مرتكب الكبيرة، فما قولك فيهم؟ فانبرى أحد التلامذة الجالسين أمام الحسن البصرى، وبادر قائلا: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، لكنه فى منزلة بين المنزلتين.
وكان هذا التلميذ المبادر، هو "واصل بن عطاء" الذى نسبت إليه (المعتزلة) لأنه قام بعد ما قاله، وجلس عند إحدى أسطوانات المسجد، ليشرح قوله لجماعة التفوا حوله، فقال الحسن البصرى لمن بقى حوله من التلاميذ: اعتزلنا واصل وأصحابه.
فسموا لذلك، حسبما قيل بالمعتزلة! أو لعلهم سموا بذلك، حسبما يقولون هم، لأنهم اعتزلوا الباطل والتزموا بالحق. مصداقاً للقول المأثور الذى ظنه البعض حديثا نبويا: من اعتزل الباطل وقع في الحق.
وانتشر بعد ذلك مذهب المعتزلة (العقلانى) وكثر متكلموه الذين جمعت بينهم على اختلاف طبقاتهم، الأصول الخمسة للمذهب. وجرت في نهر الاعتزال مياه سياسة كثيرة.
حتى جاء زمن أبي الحسن الأشعري، مؤسس الأشعرية (الأشاعرة) وقد كان فى الأصل تلميذا لأحد كبار رجال المعتزلة، هو الجبائى، فسأل الأشعري شيخه يوما عن حكم إخوة ثلاثة (فى الآخرة) مات أحدهم مؤمنا والثاني كافرا والثالث مات طفلا صغيرا.
فأجاب الجبائي وفقا للاتجاه العام للمعتزلة ذوي النزعة العقلانية، بأن المؤمن في الجنة، والكافر فى النار، والطفل إلى العدم لا هو فى جنة ولا نار؛ لأنه لم يكتسب ثوابا يدخل به الجنة، ولا اقترف ذنوبا يدخل بها النار!
فقال الأشعري ما معناه: وماذا لو قال هذا الطفل الأخير لربه، لو تركتني حياً في الأرض، لكنت قد اكتسبت ثوابا أدخل به الجنة.
فقال الجبائي ما معناه: سيقول له الله، إنه لو كان قد تركه مثلما يشتهى، لكان قد اقترف ذنوبا استحق معها دخول النار، وقد رحمه الله بموته صغيرا!
فرد عليه الأشعري: ساعتها سيقول الأخ الذى دخل النار، لربه، لماذا يارب لم تمتن صغيرا وترحمن من اقتراف الذنوب التى دخلت النار بسببها، مثلما فعلت يا ربي مع أخي الذى أمته طفلا.
و لما لم يجد (الجبائى) إجابة، احتقن، وصاح في وجه أبى الحسن الأشعري: أنت مجنون.
وخرج أبو الحسن الأشعري من مجلس شيخه، الجبائى، وصاح على باب المسجد بما معناه أنه كان معتزليا فيما سبق، ويعتقد فى آراء المعتزلة المشهورة، لكنه يتوب عنها وينوى الرد على مذهبهم.. قال:
أيها الناس، اعلموا أنى كنت أقول بخلق القرآن، وبأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أمام فاعلها؛ وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم.
وصاغ أبو الحسن الأشعري مذهبه الكلامى الذى توسط بين التأويلات العقلية المفرطة التى اشتهر بها المعتزلة، وقبول النصوص الدينية بحرفيتها مثلما يفعل أصحاب الاتجاهات المضادة لمذهب الاعتزال، كالمشبهة.
وقد اشتهرت عن الأشعري والأشاعرة الكبار من بعد، كالبلاقانى وإمام الحرمين والغزالى، آراء ونظريات عقائدية فى الصفات الإلهية، وفى نظرية (الكسب) التى يحاسب عليها الناس وفقا لها.
وغير ذلك من الآراء (الوسيطة) التى ظلت حية خلال تاريخنا الطويل، مع جهود الأشاعرة الذين كان الشيخ "محمد متولي الشعراوي" رحمه الله، فيما أرى واحدا من كبارهم. أو على الأقل، ينطلق في تفسيراته للقرآن، من موقف أشعرى حظى بقبول جمهور كبير من الناس فى زماننا، مثلما كان المذهب الأشعري دوما، يحظى بقبول الجمهور العريض.
* كتاب اللاهوت العربى